صور أمّي المؤطّرة | قصّة

 

استطاع منزلنا طوال ثلاث حروب أن يؤدّي دور الفأر بحرفيّة عالية، لهذا؛ كان قادرًا على مراوغة قطط السماء الإسرائيليّة، الّتي استمرّت في ملاحقة أحلام الفئران/ المنازل في مدينتي. منزلنا الّذي بنته أمّي بأموال الجمعيّات الخيريّة بعد استشهاد أبي؛ أبي الّذي ذهب لشراء ذكرى من البقالة؛ فبقي هناك في البعيد، وعادت الذكرى لأمّي على شكل إطار علّقته على باب غرفتها.

في الحرب الأولى، لعبت طائرة حربيّة لعبة «الغمّيضة» مع منزل جارنا، ولولا أن سقط على عينيّ نعاس مفاجئ يشبه الدم، لاستطعت رؤية وجه جارنا وهو مغطًّى بثلاثة إطارات سميكة لأبنائه الثلاثة. تناول الناس حكاية الجار الّذي حمله أبناؤه إلى السماء، قالوا: لم نجد لجثّته أثرًا، بمجرّد أن اختفى رماد الصاروخ، استمرّت أطقم الدفاع المدنيّ في البحث عن جثّته ليومين كاملين ولم تجدها. كان منزلنا وقتها يتعلّم المراوغة، ولو كان متمرّسًا لما انخلع شبّاكان من شبابيكه، ولما انكسر التلفاز الوحيد في صالة البيت. بكت أمّي يومها، ثمّ قرّرت أن تحوّلنا إلى إطارات لاعتقادها أنّ في ذلك احتيالًا على الذكرى وطردًا للموت، وهذا كان سببًا خفيًّا لعدم سقوط أبواب منزلنا لاحقًا.

في الحرب الثانية، ملّت الطائرات من اللعب، فلم يُصَب أيّ منزل من المنازل المجاورة لمنزلنا بأيّ أذًى. كلّ ما حدث أن عضّ قطٌّ كتف جارتنا الّتي كانت ذاهبة لتشتري ربطة خبز، يومها وقفتْ أمّي أمام باب منزلنا، رأيتها وهي تودّع آخر حديث بينها وبين جارتنا حول مراوغة الطيران عبر الركض بأربع أقدام. تحوّلتْ بعدها جارتنا إلى صورة بإطار أسود سميك، علّقها أبناؤها في صالون بيتها المطلّ على غرفتي.

في الحرب الثالثة، لم يُصَب بيتنا أيضًا، كلّ ما حدث أن ارتجّ من صفعة على وجهه، أسقطَت الصفعة هديّة أبي الوحيدة لأمّي؛ فقد قفزت علبة المناكير الّتي أهداها إليها في عيد ميلادها، وسال دمها على الأرض. تيقّنتْ أمّي يومها أنّ الطيران اقترب، وعرفتْ أنّ هذا تهديد يمسّها شخصيًّا، يمسّ ذكرياتها والصور المعلّقة في ذاكرتها، يمسّ حتّى علب المناكير المقفلة.

قبل قصف منزلنا في عام 2021، نجحتْ أمّي في مراوغة القطط الجائعة، كان هذا عبر حملنا واحدًا واحدًا خارج اللعبة دون دراية منّا؛ فوضعتْ أمام أخي خليل ورقتَي شَدّة بعد تخرّجه في الجامعة، وقالت: تحت كلّ ورقةٍ حياة، فاختر. ثمّ لم يمضِ عام واحد، حتّى أصبح خليل رجلًا بشارب غليظ كهتلر، ولديه حبيبة اسمها إيفا براون تسكن في بلاد بعيدة. كما لم تحتج أمّي إلى وقت طويل لتُخْرِج سمر من اللعبة؛ فقد وضعتْ في حقيبتها كومة ذكريات ودموع، وأخرجتها من المنزل بعصبة على عينيها متجاهلةً رغبتها في النظر. أوصدتْ باب غرفتها للمرّة الأخيرة، فرأيتها وهي تتحوّل إلى غيمة أوكرانيّة لتسقي زوجها حمزة في كييف.

أفلحتْ أمّي في صنع أجنحة لخليل وسمر، ولم تفلح في صنع سوى جناح واحد صغير لي. فقد كنت دائمًا حلقة الضعف في حياتها، ولم تستطع خلال خمسة وعشرين عامًا أن تعلّمني المشي، لكنّها علّمتني الطيران بجناح واحد. أذكر أوّل مرّة طرتُ فيها، يومَ استشهد جارنا وصوّر أبناءه الثلاثة. يومها، وضعتْ ورقة بيضاء أمامي وقالت: اكتب. فكتبتُ. ويومَ عادت جارتنا بربطة خبز وشالٍ أحمر إلى بيتها، كان المشهد مهيبًا فقالت: اكتب. فكتبتُ. واستمرّ الأمر على هذا المنوال، حتّى يوم كَسَرَ قطٌّ بولنديّ جائع علبة المناكير، رأتني وأنا أرتجف في زاوية الغرفة، فجاءت دموعها إليّ، وانسكبتْ على حزمة الورق على الطاولة.

في عام 2021، وعلى الرغم من إجادة منزلنا لدور الفأر طوال السنوات الماضية، إلّا أنّه ملّ من اللعبة، لكنّ أخويّ لم يملّا. قُصِفَ نصف المنزل، تفتّتتْ أشياء أمّي كلّها، وسمعتُ وأنا في غرفتي الّتي ظلّتْ واقفة مثل أرنب برّيّ، صوت بكاء الجدران وصوت انسكاب الأمل. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت أبواب منزلنا قائمة مثل لقمة في الحلق.

باب غرفة أمّي، لم يَعُدْ يُدْخِل إلى الجنّة، ولم يَعُدْ إلّا بوّابةً لعبور وجهَي أخويّ. خليل في ألمانيا، وسمر في أوكرانيا، وأنا في الغرفة المجاورة. باب المطبخ تحوّل إلى نصف منحوتة، تشبه الّتي علّقتها أمّي يومًا في صالون البيت قائلةً إنّها تشبه يد أبي. خلعَ الباب من جانبه العلويّ، أمّا أسفله فقد تكفّلتْ النيران به. لو أنّ الله خلقني بقدمين سليمتين، لاستطعت فتحه ورأيت دمعة أمّي الّتي نسيتها على الغاز.

باب غرفة سمر ظلّ كما هو. قديمًا... اعتادت أمّي على خلعه بأسنانها مساءً لتطعم ابنتها الساكنة في بلاد بعيدة، وكانت تحرص على بقائه مغلقًا منذ خرجت سمر تجرّ فستانها الأبيض. لهذا؛ لو أنّ الله خلقني بكفّين سليمتين، لاستطعت فتح الباب ومراوغة المساء والقطط عند قيامي بذلك.

باب غرفتي، ولسوء الحظّ، تحطّم نصفه تمامًا وانخلع حلقه، ولم يَعُدْ يُدخل إلى ملعب كرة قدم ولا إلى حديقة السلطان أحمد، بل إلى قفص دجاج ميّت. حين خلع رجال الدفاع المدنيّ الباب... كانت أمّي تمدّ يدها... وكان إلى جانبها شخص ما قالت إنّه أبي. لاحقًا، عندما عرضتْ قنوات التلفاز صور أبواب المنزل الّتي ظلّت قائمة، كانت الإطارات الّتي علّقت أمّي صورنا بداخلها على الأبواب، واضحة تمامًا بالنسبة إليّ. وكان خبر عاجل على شاشة عربيّة يقول:

قطط السماء الإسرائيليّة لا تأكل الصور المؤطّرة.

 


 

عامر المصري

 

 

 

كاتب وقاصّ وُلِدَ عام 1995 في مدينة خانيونس. صَدَرَت له مجموعتين قصصيّتين عن «مكتبة سمير منصور» بعنوان: «ثلاثة يحاصرونني» (2018) و«حافر القبر القادم» (2019)، وصدرت له رواية بعنوان: «ممحاة سيّدي أزرق» (2019).